الحاجة التي تُحيي القلب
35

لطالما ظن الإنسان أن الحياة تهبه السعادة حينما تتحقق رغباته وتتلاشى حاجاته. يظن أن الراحة تكمن في اللحظة التي يستغني فيها عن الطلب، ويظفر فيها بما يريد. ولكن الحقيقة أعظم وأعمق من ذلك بكثير. فالحاجة ليست عيبًا، والافتقار ليس ضعفًا، بل هما سر من أسرار القرب من الله، وعلامة من علامات الحياة في القلب.

تأمل معي هذا المشهد: كلما قضى الله لك حاجة، أوجد لك أخرى. قد تتساءل لماذا؟ أليس من الرحمة أن ننعم بالاستغناء والراحة؟ ولكن، لو أُعطيت كل ما تريد دفعة واحدة، ألن تبرد حرارة الدعاء؟ ألن يبتعد القلب شيئًا فشيئًا عن مناجاة الله ولذة الالتجاء إليه؟

الله، برحمته العظيمة، يريد لقلبك أن يظل حيًا نابضًا بالاحتياج إليه. الحاجة ليست عقبة في طريقك، بل هي الجسر الذي يصل بينك وبين خالقك. كلما اشتدت حاجتك، كلما وجدت نفسك تتقرب إليه، تتوسل بلطفه، وتستشعر دفء رحمته. فإن النفوس مجبولة على التعلق بمن تحتاج إليه، ومن استغنى عن الله، ظنًا أنه قد بلغ الغنى، فإنه لا يلبث أن يضل ويهلك، لأن الاستغناء عن الله هلاك لا محالة.

الحاجة هي لغة القلوب التي تعرف أن لا غنى لها عن ربها. هي مناجاة العبد الضعيف الذي يدرك أنه مهما ملك من أسباب الدنيا، فهو في حاجة دائمة إلى الله الذي بيده مفاتيح كل شيء.

وقد قال بعض أهل العلم بحكمة بالغة:
"يُنشئ الله لك الحاجات لتنشأ منك العبوديات."
فالله لا يثقلنا بالحاجات عبثًا، ولا يعرضنا للابتلاءات جزافًا، بل هو يريدنا أن نبقى قريبين، أن نرتبط به في كل خطوة وكل لحظة، أن نجد في الدعاء إليه راحة أكبر من الراحة نفسها. فالحاجات ليست قيودًا، بل أجنحة نطير بها نحو السماء.

تلك الحاجات التي تراها ثِقَلًا على كاهلك، هي في الحقيقة منحة ربانية تُبقيك في دائرة الرحمة، تحميك من الغفلة، وتذكّرك دومًا بأنك لست وحدك. فكل حاجة تدفعك إلى الله، وكل دعاء يُرفع إليه، هو حياة جديدة تُبث في قلبك.

لذلك، عندما تجد نفسك في حاجة، لا تبتئس ولا تجزع. بل ابتسم، لأن الله قد اختارك ليمنحك فرصة جديدة لتكون أقرب إليه. فما أعظمها من نعمة أن تكون الحاجة هي مفتاح القرب، وأن يكون الافتقار هو طريق الغنى الحقيقي.

وفي النهاية، تذكّر دائمًا أن كل حاجة تحمل في طيّاتها رسالة حب خفية من الله تعالى. إنها ليست عبئًا يُثقل كاهلك، بل دعوة رقيقة لتقترب أكثر، لتناجي، لتتوسل، ولتشعر بلذة القرب منه. فالحاجات هي طريقك إلى الطمأنينة الحقيقية، لأن القلب الذي يعرف باب الله لا يضيع أبدًا.

فلا تحزن إن تأخرت الإجابة أو طال الطريق، فالله يُمهّد لك الأجمل في وقته. وكلما رفعت يديك بالدعاء، اعلم أن ما ينتظرك أعظم مما تتخيل، لأن ربك أرحم وألطف وأكرم مما تظن. فاطمئن وواصل السير، فهناك نور في آخر الطريق ينتظرك.

دمت بخير..
تقييم اللقاء
مشاركة اللقاء
تعليقات حول الموضوع

مقال المشرف

«الطلاق».. والأبعاد الخفية

«ولولا أنَّ الحاجة داعيةٌ إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه كما دلَّت عليه الآثار والأصول، ولكنّ ....

شاركنا الرأي

للتنمر آثار سلبية على صحة الطفل وسلامه النفسي والعاطفي. نسعد بمشاركتنا رأيك حول هذا الموضوع المهم.

استطلاع رأي

رأيك يهمنا: أيهما تفضل الإستشارة المكتوبة أم الهاتفية ؟

المراسلات